فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (81):

قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا دليلًا على كفرهم، دل عليه بقوله: {ولو} أي فعلوا ذلك مع دعواهم الإيمان والحال أنهم لو {كانوا} أي كلهم {يؤمنون} أي يوجد منهم إيمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء {والنبي} أي الذي له الوصلة التامة بالله، ولذا أتبعه قوله: {وما أنزل إليه} أي من عند الله أعم من القرآن وغيره إيمانًا خالصًا من غير نفاق {ما اتخذوهم} أي المشركين مجتهدين في ذلك {أولياء} لأن مخالفة الاعتقاد تمنع الوداد، فمن كان منهم باقيًا على يهوديته ظاهرًا وباطنًا، فالألف في «النبي» لكشف سريرته للعهد، أي النبي الذي ينتظرونه ويقولون: إنه غير محمد صلى الله عليه وسلم أو للحقيقة أي لو كانوا يؤمنون بهذه الحقيقة- أي حقيقة النبوة- ما والوهم، فإنه لم يأت نبي إلا بتكفير المشركين- كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: «الأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» كما سيأتي قريبًا في حديث أبي هريرة، يعني- والله أعلم- أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع فهي متفقة في الأصل وهو التوحيد، ومن كان منهم قد أظهر الإيمان فالمراد بالنبي في إظهار زيغه وميله وحيفه محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن موالاة المشركين، بل عن متاركتهم، ولم يرض إلا بمقارعتهم ومعاركتهم.
ولما أفهمت الشرطية عدم إيمانهم، استثنى منها منبهًا بوضع الفسق موضع عدم الإيمان على أنه الحامل عليه فقال: {ولكن كثيرًا منهم فاسقون} أي متمكنون في خلق المروق من دوائر الطاعات. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنبي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء ولكن كَثِيرًا مِّنْهُمْ فاسقون}.
المعنى: لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدعون ما اتخذوا المشركين أولياء، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال: {ولكن كَثِيرًا مّنْهُمْ فاسقون} وفيه وجه آخر ذكره القفال، وهو أن يكون المعنى: ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء، وهذا الوجه حسن ليس في الكلام ما يدفعه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} يدل بهذا على أن من اتخذ كافرًا وليًا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله.
{ولكن كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ كَانُواْ} أي الذين يتولون المشركين {يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ} أي نبيهم موسى عليه السلام {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} من التوراة، وقيل: المراد بالنبي نبينا محمد وبما أنزل القرآن، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا {مَا اتَّخَذُوهُمْ} أي المشركين أو اليهود المجاهرين {أَوْلِيَاء}، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعًا {ولكن كَثِيرًا مّنْهُمْ فاسقون} أي خارجون عن الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنّبيء} إلخ الواو للحال من قوله: {ترى كثيرًا منهم} باعتبار كون المراد بهم المتظاهرين بالإسلام بقرينة ما تقدّم، فالمعنى: ولو كانوا يؤمنون إيمانًا صادقًا ما تّخذوا المشركين أولياء.
والمراد بالنّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه القرآن، وذلك لأنّ النّبيء نهَى المؤمنين عن موالاة المشركين، والقرآن نهى عن ذلك في غير ما آية.
وقد تقدّم في قوله: {لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} [آل عمران: 28].
وقد جعل موالاتهم للمشركين علامة على عدم إيمانهم بطريقة القياس الاستثنائي، لأنّ المشركين أعداء الرّسول فموالاتهم لهم علامة على عدم الإيمان به.
وقد تقدّم ذلك في سورة آل عمران.
وقوله: {ولكنّ كثيرًا منهم فاسقون} هو استثناء القياس، أي ولكنّ كثيرًا من بني إسرائيل {فاسقون}.
فالضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير {ترى كثيرًا منهم} و{فاسقون} كافرون، فلا عَجَب في موالاتهم المشركين لاتّحادهم في مناواة الإسلام.
فالمراد بالكثير في قوله: {ولكنّ كثيرًا منهم فاسقون} عين المراد من قوله: {ترى كثيرًا منهم يتولّون الّذين كفروا} فقد أعيدت النكرة نكرة وهي عين الأولى إذ ليس يلزم إعادتها معرفة.
ألا ترى قوله تعالى: {فإنّ مع العسر يسرًا إنّ مع العسر يسرًا} [الشرح: 5، 6].
وليس ضمير {منهم} عائدًا إلى {كثيرًا} إذ ليس المراد أنّ الكثير من الكثير فاسقون بل المراد كلّهم. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة المائدة: آية 67]

{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}.
بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحدًا، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك.
فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وقرئ: رسالاته، فلم تبلغ إذًا ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤدّ منها شيئًا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن به. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «بعثني اللَّه برسالاته فضقت بها ذرعا، فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت. فإن قلت: وقوع قوله فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر اللَّه في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان أمرًا شنيعًا لا خفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: {فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ عدة من اللَّه بالحفظ والكلاءة والمعنى: واللَّه يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات اللَّه عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات اللَّه، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت بعد يوم أحد، والناس الكفار بدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وعن أنس: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمنى اللَّه من الناس.

.[سورة المائدة: آية 68]

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)}.
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أى على دين يعتد به حتى يسمى شيئًا لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء فَلا تَأْسَ فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.

.[سورة المائدة: آية 69]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}.
وَالصَّابِئُونَ رفع على الابتداء وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهدًا له:
وَإلّا فَاعْلمُوا أنَّا وأنْتُمْ ** بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ

أى فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان. فان قلت لم لا يصح والنية به التأخير، فكأنك قلت: إنّ زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأنى إذا رفعته رفعته عطفا على محل إن واسمها، والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها «إن» في عملها، فلو رفعت الصابئون المنوىّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فان قلت: فقوله والصابئون معطوف لابد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ... ولا محل لها، كما لا محل للتي عطفت عليها، فان قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤا عن الأديان كلها، أى خرجوا، كما أن الشاعر قدم قوله: «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أو غل في الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو «بغاة» لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم، مع كونهم أو غل فيه منهم وأثبت قدما فان قلت: فلو قيل والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلا. قلت: لو قيل هكذا لم يكن من التقديم في شيء، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال مقدّم ومؤخر للمزال لا للقارّ في مكانه.
ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام. فان قلت: كيف قال: {الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال: {مَنْ آمَنَ}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه. فان قلت: ما محل من آمن.
قلت: إما الرفع على الابتداء وخبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه، أو من المعطوف عليه. فان قلت: فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت: هو محذوف تقديره من آمن منهم، كما جاء في موضع آخر. وقرئ: والصابيون، بياء صريحة، وهو من تخفيف الهمزة، كقراءة من قرأ:
يستهزيون. والصابون. وهو من صبوت، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبىّ رضى اللَّه عنه: والصابئين، بالنصب. وبها قرأ ابن كثير. وقرأ عبد اللَّه: يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.